فصل: تفسير الآيات (81- 85):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (81- 85):

{فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ (83) وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ (84) وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (85)}.
التفسير:
تكشف هذه الآيات عن وجه أولئك المنافقين، الذين تخلّفوا عن رسول اللّه في غزوة تبوك، وتفضح الأعذار الكاذبة التي كانوا يعتذرون بها، وترسم للنبى- صلوات اللّه وسلامه عليه- الأسلوب الذي يعاملهم به، والموقف الذي يقفه منهم.
وفى قوله تعالى: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ} تنديد ووعيد من اللّه سبحانه وتعالى لهؤلاء الذين تخلفوا عن رسول اللّه في تلك الغزوة، وأن هذه الفرحة التي شاعت في نفوسهم حين بدا لهم أنهم أفلتوا من هذا البلاء الذي ابتلى به المؤمنون في هذه الغزوة.. من قلّة الزاد، وبعد الشّقة، ووقدة الحرّ- هذه الفرحة لن يهنئوا طويلا بها، بل ستعقبها حسرة وندامة، وعذاب شديد.
والمخلّفون: جمع مخلّف، وهو الذي بقي خلف القوم، وترك وراءهم.
وكأنه بهذا هو المتروك لا التّارك، والمخلّف لا المخلّف.. وفى هذا إشارة إلى أن هؤلاء الذي تخلّفوا هم مخلّفون! قد تركهم المجاهدون، وسبقوهم إلى حظهم من الخير الذي أراده اللّه لهم.
والمقعد: مصدر ميمى للفعل قعد أي فرح المخلفون بقعودهم.
و{خلاف رسول اللّه}: الخلاف ظرف بمعنى خلف، ووراء.. ويجوز أن يكون مفعولا له، بمعنى: لأجل خلافهم لرسول اللّه.
وقوله سبحانه: {وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} معطوف على قوله تعالى: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ} بمعنى فرحوا بقعودهم بعد رسول اللّه، وكرهوا، أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل اللّه.
وقوله تعالى: {وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ} معطوف على ما قبله، من فعلات هؤلاء المخلّفين.. بمعنى أنهم فرحوا بتخلفهم، وكرهوا أن يجاهدوا، وقالوا لا تنفروا في الحرّ.
وقولهم: {لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ} قد يكون من حديث بعضهم إلى بعض، وتحريض بعضهم لبعض على ترك الجهاد في الحرب، وذلك ليكثر عددهم، وتقوى جبهتهم، وليكون للمتخلف منهم وجه من العذر، بكثرة المتخلفين غيره.
وقد يكون هذا القول منهم على إطلاقه، يقولونه لكل من يلقاهم من المؤمنين، ليفتّروا به الهمم، ويكسروا العزائم، حتى لا يجتمع على دعوة النبيّ للجهاد، الجيش الذي يخرج به في هذه الغزوة.. وبهذا لا ينكشف أمر المنافقين الذين عقدوا العزم على التخلّف عن الغزو، حيث لا يخفّ أحد للجهاد، إذا صحّ ما قدّروه، وعملوا له، من إشاعة الدعوة في الناس، بألّا ينفروا في الحرّ.
وقوله سبحانه: {قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ} هو ردّ مفحم على هذه القولة التي تنادى بها المنافقون بقولهم: {لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ}.
فإن تركهم النفير في الحرّ يوقعهم في حرّ أشد هولا من هذا الحرّ، الذي يعتبر بردا وسلاما إذا قيس بحر جهنم.. فلو أنهم عقلوا هذا، وفقهوه، لما اشتروا عذاب الآخرة بلفحات الهجير هذه، التي يخشون لقاءها في طريقهم إلى الجهاد.
ولكنهم قوم لا يفقهون.
وقوله تعالى: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ} هو وعيد لهؤلاء المنافقين، الذين فرحوا بمقعدهم خلاف رسول اللّه، وقالوا لا تنفروا في الحرّ.. إنهم لن يهنؤهم هذا الفرح، ولن يطول مقامهم في ظل هذه العافية التي هم فيها.. فما هي إلا أيامهم الباقية لهم في هذه الدنيا، ثم إذا هم في العذاب الأليم الدائم، لا يفترّ عنهم وهم فيه مبلسون.
وقوله تعالى: {فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ}.
هو بيان من اللّه سبحانه للنبىّ، في موقفه من المنافقين، إذا هو رجع من غزوته تلك.. فإن من هؤلاء المتخلّفين من تخلّف لا عن شك في دينه، أو ارتياب في عقيدته، ولكن قعد به فتور همته أن يلحق بالركب، وأن يجمع عزمه المشتت، ليقطع حبال التردد العالقة به، فلمّا أن فاتته الفرصة، ولم يعد في استطاعته أن يلحق بالجيش المجاهد، استبدّ به الندم، واستولت عليه الحسرة، وضاقت عليه الأرض بما رحبت.. ومن هؤلاء المتخلفين من تخلّفوا عن نية فاسدة، وعقيدة منافقة، ودين مريض.. فهؤلاء هم المنافقون حقّا، وهم الطائفة التي أشار إليها قوله تعالى: {فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ}.
إنّهم يريدون أن يحتفظوا بمكانهم في المسلمين، وأن يأخذوا موقفهم مع المجاهدين، وذلك بأن يتخيّروا الزمان والمكان اللذين يخرجون فيهما مع المجاهدين.. فإذا كانت الشقة بعيدة، والحرّ شديدا أو البرد قارصا، تبطّئوا، وجاءوا بالمعاذير والعلل، وإن كانت الشقة قريبة، والمغانم دانية، أخذوا مكانهم في صفوف المسلمين.
وفيهم يقول اللّه تعالى: {لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لَاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ} [42: التوبة].. وليست هذه سبيل المؤمنين المجاهدين، وإنما سبيلهم قائمة على نيّة منعقدة أبدا على الجهاد والاستشهاد في سبيل اللّه، ومن كانت تلك سبيله، وهذه غايته، فإنه لا ينظر إلى نفسه، ولا يعمل حسابا لمغنم أو مغرم، وإنما حسابه كلّه مضاف إلى الانتصار لدين اللّه، والإعزاز لكلمة اللّه.
ولهذا ردّ اللّه سبحانه هؤلاء المنافقين، ومحا اسمهم من ديوان المجاهدين، وأمر نبيّه الكريم أن يبعدهم عنه، وأن يعزلهم عن مجتمع المسلمين المجاهدين، وأن يكون ردّه عليهم إذا استأذنوه لقتال معه: {لن تخرجوا معى أبدا ولن تقاتلوا معى عدوّا}.
هكذا يلقاهم النبيّ بهذا الحكم القاطع، الذي لا استثناء فيه، ولا رجوع عنه.. {إنكم رضيتم بالقعود أول مرة}.
أي أول مرّة دعيتم فيها للجهاد دعوة ملزمة لا تحل منها، وذلك في غزوة تبوك التي ندب النبيّ لها المسلمين جميعا، كما أمره اللّه سبحانه وتعالى بذلك في قوله: {انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [41: التوبة]. فهذه أول مرّة يدعى فيها المسلمون دعوة عامة للجهاد بكل ما يملكون من أنفس وأموال.
وفى قوله تعالى: {وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ} ما يكشف عن شناعة جرم هؤلاء المنافقين، وفظاعة الجناية التي جنوها على أنفسهم.. ولهذا، فإن الصلة التي بينهم وبين المؤمنين قد انقطعت انقطاعا تاما في الحياة، وفيما بعد الحياة، حتى لو مات ميّتهم لم يلتفت المسلمون إليه، ولم تعطفهم عليه عاطفة رحم أو رحمة.. وقد نهى اللّه النبيّ صلى اللّه عليه وسلم أن يصلى على أحد من موتاهم أو يقوم على قبره، داعيا له مستغفرا.. وهو نهى للمسلمين جميعا، في جميع الأحوال والأزمان أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى.. أحياء أو أمواتا. {إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ} أي إنهم كانوا على كفر باللّه وبرسوله، وقد ماتوا على هذا الكفر.. فلا ينالهم اللّه برحمته، ولا يرحمهم الراحمون.
وقوله سبحانه: {وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ} هو تحقير لهؤلاء المنافقين، واستخفاف بما كان لهم في الدنيا من مال وأولاد.. فإن كثرة هذه الأموال، وهؤلاء الأولاد، لم تكن مبعث سعادة ورضى لهم في دنياهم، كما يبدو ذلك من ظاهر الحال، ولكنها كانت مثار قلق دائم، وإزعاج متصل لهم، لأن عدم إيمانهم باللّه واليوم الآخر أراهم كلّ الذي بين أيديهم، هو في معرض الهلاك والزوال، لا يلتقون به بعد هذه الحياة، بل ولا يلتقون بأنفسهم بعد أن تحتويهم القبور، ويشتمل عليهم التراب.. فهم في هذه الحياة، يختطفون اللذات اختطافا، ويختلسونها اختلاسا، بلا أمل في غد، ولا رجاء فيما بعد غد.. وأنهم كلّما كثرت أموالهم وأولادهم كلّما ازدادت همومهم، وثقلت عليهم مئونة حراستها، ودفع غائلة العدوّ الراصد لها ولهم، وهو الفناء الأبدى، والقطيعة القاطعة بينها وبينهم.
وقوله تعالى: {وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ} هو من البلاء المسلط عليهم من أموالهم وأولادهم، إذا كانت هذه الأموال والأولاد من الأسباب التي مدّها اللّه لهم، لتحجبهم عن الإيمان، وتقيمهم على طريق الكفر، فيعيشون به، ويموتون عليه. إذ كان شغلهم بأموالهم وأولادهم مما أعمى بصيرتهم عن النظر إلى ما وراء الأموال والأولاد.
وفى قوله سبحانه، في هذه الآية: {وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ} وقوله في الآية التي قبلها: {وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ} إشارة إلى أن الكفر والفسق من واد واحد، وأن الكافر فاسق، والفاسق كافر.. إذ الفسق هو الخروج عن طريق الحقّ، والمشاقّة للّه ولرسوله وللمؤمنين، وذلك هو الكفر كله.

.تفسير الآيات (86- 89):

{وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ (86) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (87) لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ}.
أولو الطول: الطول: من طال الشيء بطوله، أي قدر عليه وتمكن منه.. وأولوا الطول: هم أصحاب القدرة التي تمكن لهم من بلوغ ما لا يستطيع غيرهم بلوغه، يجاههم، وسلطانهم، وأموالهم.
والآية الكريمة، تكشف عن وجه آخر من وجوه المنافقين، وتفضح طائفة أخرى من طوائفهم، وهم أصحاب الرياسة، والسيادة، والقدرة فيهم.
هؤلاء المنافقون {إِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ} أي إذا أنزل قرآن يحمل إلى المؤمنين أمرا من اللّه سبحانه وتعالى، يذكرهم بالإيمان باللّه، ويدعوهم إلى الجهاد مع رسول اللّه.. {اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ} أي بادر أصحاب الطول هؤلاء، إلى التحلل من هذا الأمر، بالاعتذار إلى رسول اللّه، واستئذانه في أن يعفيهم من إجابة هذه الدعوة، والجهاد في سبيل اللّه.
وفى قولهم {ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ} ما يكشف عن استخفافهم بأمر اللّه، واسترواحهم للتحلل منه، حتى ليهنؤهم المقام، وتطيب لهم الحياة، فيقعدون مع القاعدين، ويسمرون مع السامرين.. وهذا ما يكشف عنه قوله تعالى: {رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ}.
أي قد سولت لهم أنفسهم أن يكونوا مع الخوالف، ممن لا طول لهم ولا حول، من المرضى، والزّمنى، وأصحاب العاهات والعلل، والأطفال، والنساء، والإماء، والعبيد- رضوا أن يكونوا مع هذه الطوائف من الناس، وهم أصحاب طول وحول، لم يكن يرضيهم أبدا أن يكون بينهم وبين هذه الطوائف أمر جامع، أو صفة مشتركة.. فكيف وهم أصحاب الحول الطول ينزلون إلى هذا المستوي الذي يضيفهم إلى مجتمع الصبيان والعبيد؟ ولكن هكذا أرادوا أن يكونوا، وهكذا صنعوا بأيديهم هذا الثوب الذي لبسوه.
ثوب الصّغار والامتهان.
وفى قوله سبحانه: {وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ} إشارة إلى أنهم وقد لبسوا ثياب المهانة والخزي بهذا الموقف الذي وقفوه- لا يدركون ما وقع عليهم من ذلة وهوان، إذ كانت أعينهم في عمى، وقلوبهم في غفلة، وعقولهم في ضلال.
وقوله تعالى: {لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} هو عرض للوجه الآخر المشرق الوضيء من وجهى هذا الموقف.. من أمر اللّه بالإيمان، ودعوته إلى الجهاد..
فإذا كان المنافقون، وأصحاب الطول فيهم، قد نكصوا على أعقابهم، ورضوا بأن يكونوا مع الخوالف، فإن النبيّ- صلوات اللّه وسلامه عليه- والذين آمنوا معه، جاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل اللّه.. فما أن دعاهم اللّه ورسوله إلى الجهاد حتى طاروا إليه سراعا، ونفروا خفافا وثقالا.
وإذا كان المخلّفون قد ألبسهم للّه بتخلفهم ثوب الخزي ولذلة، فإن رسول اللّه والمجاهدين معه، قد تلقاهم اللّه حفيّا بهم، موسعا لهم في رحاب فضله ورضوانه، فملأ أيديهم من المغانم، وكتب لهم النصر على عدوهم، ومكن لهم في الأرض، وأعدّ لهم في الآخرة جنات تجرى من تحتها الأنهار.. ورضوان من اللّه أكبر.
ذلك هو الفوز العظيم.
وفى قوله تعالى: {وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ}.
العطف هنا بالواو، إشارة إلى ما للرسول والمؤمنين المجاهدين معه، عند اللّه، من أوصاف كريمة، غير تلك الأوصاف التي وصفها اللّه بهم، وأن ما وصفوا به هنا ليس إلا من قبيل التنويه والإشارة إلى تلك الأوصاف التي لا تحصر، وإن كان ذكر قليلها يغنى عن كثيرها، لأنها كلها من باب واحد، هو باب الخير والإحسان.. ويكون من مفهوم الآية الكريمة.. لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم.. أولئك رضى اللّه عنهم، وأنزلهم منازل رحمته وإحسانه {وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.
وفى تكرار الإشارة إلى الرسول والمؤمنين المجاهدين في قوله تعالى: {وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} تأكيد للتنويه بهم، وتقرير لدرجتهم العالية، ومنزلتهم الكريمة التي أنزلهم اللّه إياها.. كما أن في ذلك إشارة إلى أن مقامهم هذا الرفيع الذي هم فيه، لا تبلغه الإشارة التي يقصر عنها النظر، وأنه لكى يمكن أن يرتفع النظر إلى هذا المستوي، ينبغى أن يكون ذلك على مراحل يقطعها صعدا في الوصول إليهم.
{أُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ}.
فانظر إليهم.. إنهم هنا! لا.. إنهم هناك.. ولا.. إنهم فوق هذا.. {أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} فارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير!

.تفسير الآيات (90- 92):

{وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (90) لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ (92)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ} الواو في قوله تعالى {وجاء} تصل ما انقطع من حديث القرآن عن المنافقين، وما كشف من وجوههم المنكرة، وما فضح من أساليبهم المخادعة المضللة.
والفعل {جاء} في امتداد مقطعه هكذا {جاء} وفى تذبذب أنغامه بين همس الواو وجهر الجيم، وخطف الهمزة- برسم صورة مكتملة الألوان والظلال للمنافقين، وهم في طريقهم إلى النبيّ، متحاملين متثاقلين، تدور أعينهم هنا وهناك، حذرا من أن تفضحهم أعذارهم التي بين أيديهم، يسوقونها إلى النبيّ، ويدفعون بها في خوف وخطف واضطراب.
ثم هم في موكبهم الطويل إلى رسول اللّه أنماط مختلفة.
منهم.. السفيه الوقح، الذي لا يعرف الحياء وجهه.. فيجيء خفيفا مسرعا، يبادر القوم قبل أن يسبقوه، فيأخذوا عليه الطريق إلى ما يعتذر به، إذ كانوا قد استنفذوا الأعذار بين يدى رسول اللّه.
ومنهم من لا يعرف له عذرا.. ولكنه لابد أن يعتذر، لأنه لا يريد أن يكون في المجاهدين.. فيمشى إلى النبيّ متثاقلا متحاملا.. حتى تنكشف له وجوه الأعذار التي يعتذر بها المعتذرون، لعله يقع على واحد منها!! ومنهم من يقطع الطريق إلى النبيّ ولا يبلغه، بل يقف بعيدا يتسمّع الأنباء عن المعتذرين وما يعتذرون به وما يقوله النبيّ لهم! ومنهم.. ومنهم.
إنهم أشكال متعددة، وأنماط مختلفة.. ولكنهم جميعا على طريق النفاق سائرون، وعلى نية التخلف عن الجهاد قائمون.
{وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ}.
والمعذّرون هم أصحاب الأعذار ومختلقوها.. فخلق الأعذار واصطناعها هو عملهم، والصفة الغالبة عليهم.. كما يقال: المهندسون، والمعلمون.. فهم صناع الأعذار، لا صنعة لهم غير هذا.
والأعراب: جمع أعرابى، وهم سكان البادية.
وانظر في وجه النظم القرآنى، يشهدك على هؤلاء الأعراب، وقد جاءوا من شتى الجهات، بعد أن سمعوا دعوة الرسول إليهم بقوله. {انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} جاءوا لا لينتظموا في صفوف المجاهدين، ولا ليقاتلوا في سبيل اللّه، وإنما جاءوا ليعتذروا عن الجهاد، وليقدموا من المعاذير ما في جهدهم، كما يقدم المجاهدون في سبيل اللّه أموالهم وأنفسهم!! فما أتعس هذا المجيء، وما أشأم ذلك السعى! قوله تعالى: {وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} هو الوصف الذي وصف به أولئك المعذّرون، والسّمة التي وسموا بها.. فهم الذين قعدوا متخلفين عن الجهاد، وهم الذين افتروا الكذب على اللّه ورسوله، بهذه الأعذار التي اختلقوها وجاءوا إلى النبيّ بها.
وفى هذا الخبر تهديد ووعيد لهم.. إذ ليس مرادا به الإخبار عنهم، وأنهم قعدوا، وإنما هو خبر يكشف عن جريمة غليظة، ويحدّث عن منكر عظيم.
وفى قوله تعالى: {وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} حكم عليهم بالإدانة، وبأن هذه الأعذار التي اعتذروا بها إنما هي محض كذب وافتراء.. إذ هم الذين كذبوا اللّه ورسوله.. وقد عدل عن الضمير إلى الاسم الظاهر، ليعرضوا هذا العرض الكاشف عن كذبهم، ويسمعوا حكم اللّه عليهم.
وقوله سبحانه: {سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ} هو بيان للجزاء الذي أحذ به هؤلاء المعذّرون الذين كذبوا اللّه ورسوله، وأنهم جميعا من أهل الكفر، ولا مثوى للكافرين غير النار وعذاب السعير.
وحرف الجرّ في قوله تعالى: {سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ} للبيان، لا للتبعيض.
فكل هؤلاء المعذّبين من الكافرين فليس فيهم كافر وغير كافر، بل كلهم كافرون.
أما أصحاب الأعذار الحقيقة فقد أغناهم اللّه سبحانه وتعالى عن أن يقفوا هذا الموقف، فعذرهم للّه قبل أن يعتدروا، ورفع عنهم الحرج، في قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ} فهؤلاء أصحاب أعذار ظاهرة، ينطق بها لسان الحال، قبل أن ينطق بها لسان المقال.. فالشريعة الإسلامية قائمة على اليسر، ورفع الحرج عن المؤمنين، فلا إعنات فيها، ولا مشقّة أو عسر في تكاليفها.. {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها}.
فالضعفاء.. من شيوخ، وأطفال، ونساء، وعبيد وإماء، والمرضى وأصحاب العاهات المانعة من السفر والقتال- هؤلاء جميعا ومن في حكمهم لا حرج عليهم في أن يتخلفوا عن ركب المجاهدين، {إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} أي إذا كانت قلوبهم سليمة عامرة بالإيمان، تربط مشاعرهم بمشاعر المؤمنين المجاهدين في سبيل اللّه.. فهم مع المجاهدين بمشاعرهم كلها. يدعون لهم بالنضر، ويتمنون لهم الغلب والسّلامة، ويخلفونهم في أهلهم، ويقومون على رعاية أبنائهم وأزواجهم، وقضاء حوائجهم، ورفع الضرّ عنهم، ومواساة من أصيب منهم في أب، أو أخ، أو زوج، إلى غير ذلك ممّا يبعث في نفس المجاهد الطمأنينة، ويطلق يديه كليهما، ووجوده كلّه، للعمل في ميدان المعركة، ومواجهة العدوّ.
وبهذا يكون المؤمنون جميعا في ميدان المعركة. سواء منهم من شهدها وحارب فيها، أو من تخلّف، بما معه من عذر، ونصح للّه ورسوله، في سلوكه الطيب، مع من يخلّفهم المحاربون وراءهم من أهل وولد، وفى مشاعره المتجهة إلى المجاهدين في ميدان القتال، والدعاء لهم بالنصر وتمنّيه لهم.
وقوله تعالى: {ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} إشارة إلى أن هذا الذي يبدله المتخلفون من ذوى الأعذار، من نصح للّه ورسوله، وراء جبهة القتال، هو غاية ما في مستطاع هؤلاء المتخلفين، وهو ميدانهم الذي يكون لهم فيه عمل وإحسان.. {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها}.
فإذا أعطى المؤمن- في باب الإحسان- ما وسعته نفسه، فهو في المحسنين.
وقوله سبحانه: {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} إشارة أيضا إلى أن الذي يوجّه نفسه للإحسان، ويعمل له، هو محسن، وإن قصّر فيما عمل، ولم يبلغ غاية الإحسان.. فرحمة اللّه واسعة، ومغفرته شاملة، يتقبل من المحسنين أحسن ما عملوا، ويتجاوز عن سيئاتهم، كما يقول سبحانه: {أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ} [16: الأحقاف].
وقوله تعالى: {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا} هو معطوف على قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى} أي ليس حرج على هؤلاء الذين أتوك لتحملهم، أي تهيئ لهم مركبا ينقلهم إلى ميدان الجهاد.. والخطاب للنبىّ صلى اللّه عليه وسلم، وقد جاءه جماعة من فقراء المسلمين، صحّت نيتهم على الغزو والجهاد، ولكنهم عجزوا عن أن يجدوا مركبا يركبونه، فجاءوا إلى النبيّ صلى اللّه عليه وسلم يسألونه أن يحملهم معه في جيش المجاهدين، ولم يكن بين يدى النبيّ، ولا في جيش المسلمين ما يحملهم عليه، فقال لهم- صلوات اللّه وسلامه عليه: «لا أجد ما أحملكم عليه».
فامتلأت نفوسهم أسى وحسرة، وفاضت دموعهم ألما وحزنا، أن فاتهم حظهم من الجهاد، وإن لم يكن في أيديهم ما ينفقونه في سبيل اللّه، وفى إعداد المركب الذي يحملهم مع المجاهدين: {تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ}.
وهؤلاء هم الذين عرفوا في المسلمين بالبكائين.
وإذا كان بكاء الرجال مذموما في كل موطن، إلّا أنه هنا في هذا المقام- مقام التعامل مع اللّه- محمود غاية الحمد، بل ومطلوب من المؤمن أن يكون هنا حاضر الدمعة غزيرها.. وفى الحديث: «إن لم تبكوا فتباكوا».
فالدمعة هنا دمعة عزيزة على اللّه، لا تقع على الأرض، كما تقع دموع الباكين، فتضيع بددا.. وإنما تتلقاها ملائكة الرحمن، فإذا هي نهر جار من نور، يغمر فيه صاحبها، فإذا هو خلق من نور، أصفى من الجوهر، وأضوأ من شمس الضحى، يقول الرسول الكريم: «عينان لا تمسّهما النار: عين بكت من خشية اللّه، وعين باتت تحرس في سبيل اللّه..».